فصل: المسألة الرابعة: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الرابعة: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}:

دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْرَبُونَ مَسْجِدًا سِوَاهُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ النَّجَاسَةُ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ، وَالْحُرْمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَسْجِدِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا كَثِيرًا؛ فَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ.
وَهَذَا جُمُودٌ مِنْهُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يُسْقِطُ هَذَا الظَّاهِرَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ: لَا يَقْرَبُ هَؤُلَاءِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ وَلَوْ قَالَ: لَا يَقْرَبْ الْمُشْرِكُونَ وَالْأَنْجَاسُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَكَانَ تَنْبِيهًا عَلَى التَّعْلِيلِ بِالشِّرْكِ أَوْ النَّجَاسَةِ، أَوْ الْعِلَّتَيْنِ جَمِيعًا، بَلْ أَكَّدَ الْحَالُ بَيَانَ الْعِلَّةِ وَكَشَفَهَا، فَقَالَ: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}: يُرِيدُ ولابد لِنَجَاسَتِهِمْ، فَتَعَدَّتْ الْعِلَّةُ إلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مُحْتَرَمٍ بِالْمَسْجِدِيَّةِ.
وَمِمَّا قَالَهُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْكَافِرَ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِإِذْنِ الْمُسْلِمِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُشْرِكٌ».
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ عَلِمَ إسْلَامَهُ، وَهَذَا وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ فَلَا يَضُرُّنَا؛ لِأَنَّ عِلْمَ النَّبِيِّ بِإِسْلَامِهِ فِي الْمَآلِ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِهِ فِي الْحَالِ.، وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْعُمُومُ بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَخْصُوصٌ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ.
وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَسَنَدٌ ضَعِيفٌ لَا يُخَصُّ بِمِثْلِهِ الْعُمُومَاتُ الْمُطْلَقَةُ، فَكَيْفَ الْمُعَلَّلَةُ بِالْعِلَّةِ الْعَامَّةِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِجَمِيعِهَا، وَهِيَ الشِّرْكُ؟

.الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: [في خصوص المسجد الحرام بمنع المشركين من دخوله]:

قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: هَذَا الْقَوْلُ وَالْحُكْمُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
فَأَمَّا مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ فَلَا يَزِيدُ فَضْلًا عَلَى غَيْرِهِ؛ إذْ قَدْ دَخَلَ أَبُو سُفْيَانَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْرِكٌ عِنْدَ إقْبَالِهِ لِتَجْدِيدِ الْعَهْدِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ حِينَ خَشِيَ نَقْضَ الصُّلْحِ بِمَا أَحْدَثَهُ بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ.
قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ دُخُولَ ثُمَامَةَ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَدُخُولَ أَبِي سُفْيَانَ فِيهِ عَلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ قَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}؛ فَمَنَعَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَصًّا، وَمَنَعَ مِنْ دُخُولِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ تَعْلِيلًا بِالنَّجَاسَةِ، وَلِوُجُوبِ صِيَانَةِ الْمَسْجِدِ عَنْ كُلِّ نَجَسٍ.
وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ.

.المسألة السادسة: [في دخول المشرك المساجد الأخرى غير المسجد الحرام]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَدْخُلُ الْكَافِرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِحَالٍ، وَيَدْخُلُ غَيْرَهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ لِلْحَاجَةِ، كَمَا دَخَلَ ثُمَامَةُ وَأَبُو سُفْيَانَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ لِحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ خَطَأٌ، أَمَّا دُخُولُهُ لِلْحَاجَةِ فَقَدْ أَفْسَدْنَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا دُخُولُهُمْ كَذَلِكَ مُطْلَقًا فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ تَعْلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَدْقِيقِهِ.
وَلَقَدْ كُنْت أَرَى بِدِمَشْقَ عَجَبًا، كَانَ لِجَامِعِهَا بَابَانِ: بَابٌ شَرْقِيٌّ وَهُوَ بَابُ جَيْرُونَ، وَبَابٌ غَرْبِيٌّ، وَكَانَ النَّاسُ يَجْعَلُونَهُ طَرِيقًا يَمْشُونَ عَلَيْهَا نَهَارَهُمْ كُلَّهُ فِي حَوَائِجِهِمْ، وَكَانَ الذِّمِّيُّ إذَا أَرَادَ الْمُرُورَ وَقَفَ عَلَى الْبَابِ حَتَّى يَمُرَّ بِهِ مُسْلِمٌ، مُجْتَازٌ، فَيَقُولَ لَهُ الذِّمِّيُّ: يَا مُسْلِمُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَمُرَّ مَعَكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَدْخُلُ مَعَهُ، وَعَلَيْهِ الْغِيَارُ عَلَامَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِذَا رَآهُ الْقَيِّمُ صَاحَ بِهِ: ارْجِعْ، ارْجِعْ، فَيَقُولُ لَهُ الْمُسْلِمُ: أَنَا أَذِنْت لَهُ فَيَتْرُكُهُ الْقَيِّمُ.

.المسألة السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}:

فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَنَةُ تِسْعٍ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ سَنَةُ عَشْرٍ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ.
وَإِنَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ سَنَةُ تِسْعٍ، وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْأَذَانُ وَلَوْ دَخَلَ غُلَامُ رَجُلٍ دَارِهِ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: لَا تَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ بَعْدَ يَوْمِك هَذَا لَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْيَوْمَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ.
فَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّهْيَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّدَاءُ، وَلَوْ تَنَاصَفَ النَّاسُ فِي الْحَقِّ، وَأَمْسَكَ كُلُّ أَحَدٍ عَمَّا لَا يَعْلَمُ مَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا النِّزَاعُ.

.المسألة الثامنة: قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}:

الْمَعْنَى: إنْ خِفْتُمْ الْفَقْرَ بِانْقِطَاعِ مَادَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْكُمْ بِالتِّجَارَةِ الَّتِي كَانُوا يَجْلِبُونَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يُعَوِّضُ عَنْهَا؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْأَسْبَابِ فِي الرِّزْقِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مَقْدُورًا، وَأَمْرُ اللَّهِ وَقَسْمُهُ لَهُ مَفْعُولًا، وَلَكِنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْأَسْبَابِ حِكْمَةً؛ لِتَعْلَمَ الْقُلُوبُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْبَابِ مِنْ الْقُلُوبِ الَّتِي تَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ، وَلَيْسَ يُنَافِي النَّظَرَ إلَى السَّبَبِ التَّوَكُّلُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُسَخَّرٌ مَقْدُورٌ؛ وَإِنَّمَا يُضَادُّ التَّوَكُّلَ النَّظَرُ إلَيْهِ بِذَاتِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ الَّذِي سَخَّرَهُ فِي أَرْضِهِ وَسَمَاوَاتِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا».
فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوَكُّلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يُضَادُّهُ الْغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، لَكِنَّ شُيُوخَ الصُّوفِيَّةِ قَالُوا: إنَّمَا تَغْدُو وَتَرُوحُ فِي الطَّاعَةِ، فَهُوَ السَّبَبُ الَّذِي يَجْلِبُ الرِّزْقَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: قَوْلُهُ: {وَأْمُرْ أَهْلَك بِالصَّلَاةِ}.
وَالثَّانِي قَوْلُهُ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فَلَيْسَ يَنْزِلُ الرِّزْقُ مِنْ مَحِلِّهِ وَهُوَ السَّمَاءُ إلَّا مَا يَصْعَدُ إلَيْهَا وَهُوَ الذِّكْرُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَلَيْسَ بِالسَّعْيِ فِي جِهَاتِ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا رِزْقٌ.
وَالصَّحِيحُ مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ الْحَرْثِ وَالتِّجَارَةِ وَالْغِرَاسَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تَعْمَلُهُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنْ التِّجَارَةِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَالْعِمَارَةِ لِلْأَمْوَالِ، وَغَرْسِ الثِّمَارِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَضْرِبُ عَلَى الْكُفَّارِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَيَسْتَرْزِقُ مِنْ أَفْضَلِ وُجُوهِ رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْأَغْنَامُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ رَاضٍ عَنْهُمْ، وَهَذِهِ كَانَتْ صِفَةَ الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْهُمْ؛ يَسْلُكُونَ هَذِهِ السَّبِيلَ فِي الِاكْتِسَابِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ.
أَمَا إنَّهُ لَقَدْ كَانَ قَوْمٌ يَقْعُدُونَ بِصُفَّةِ الْمَسْجِدِ مَا يَحْرُثُونَ وَلَا يَتَّجِرُونَ، لَيْسَ لَهُمْ كَسْبٌ وَلَا مَالٌ، إنَّمَا هُمْ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ إذَا جَاءَتْ هَدِيَّةٌ أَكَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةً خَصَّهُمْ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمُعَابٍ عَلَيْهِمْ، لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَمُلَازَمَتِهِمْ لِلذِّكْرِ وَالِاعْتِكَافِ، فَصَارَتْ جَادَّتَيْنِ فِي الدَّيْن وَمَسْلَكَيْنِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ آثَرَ مِنْهُمَا وَاحِدًا لَمْ يَخْرُج عَنْ سُنَنِهِ، وَلَا اقْتَحَمَ مَكْرُوهًا.

.المسألة التاسعة: قَوْلُهُ: {مِنْ فَضْلِهِ}:

فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: مِنْ حَيْثُ شَاءَ، وَعَلِمَ؛ لِعُمُومِ فَضْلِهِ، وَسَعَةِ رِزْقِهِ وَرَحْمَتِهِ.
الثَّانِي: بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَخِصْبِ الْأَرْضِ، فَأَخْصَبَ تَبَالَةُ وَجُرَشُ، فَحَمَلُوا إلَى مَكَّةَ الطَّعَامَ وَالْوَدَكَ، وَأَسْلَمَ أَهْلُ نَجْدٍ وَصَنْعَاءَ.
الثَّالِثُ: بِالْجِزْيَةِ.
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ وَيُرَادُ بِهِ جَمِيعُهَا، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يُرِيدَ بِهِ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ فِيمَا يَجْلِبُونَ مِنْ التِّجَارَةِ وَالرِّزْقِ إلَيْكُمْ بِجَلْبِكُمْ أَنْتُمْ لَهَا وَاسْتِغْنَائِكُمْ عَنْهَا بِأَنْفُسِكُمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ.

.المسألة العاشرة: قَوْلُهُ: {إنْ شَاءَ}:

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لِيَعْلَمَ الْخَلْقُ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى تَوَلَّى قِسْمَتَهُ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ}. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} يعني: قذر ورجس؛ ولم يقل أنجاس، لأن النَّجَس مصدر والمصدر لا يثنَّى ولا يجمع، {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا}؛ فهذه الآية من الآيات التي قرأها عليهم عليّ بن أبي طالب بمكة، يعني: لا يدخلوا أرض مكة، وقال مقاتل: يعني: الحرم كله، وقال مالك بن أنس: لا يجوز للكفار أن يدخلوا المساجد، لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} كما أن الجنب لا يجوز له أن يدخل المسجد.
وقال الزهري: له أن يدخل جميع المساجد إلا المسجد الحرام؛ وهو قول الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابه: يجوز للذمي أن يدخل جميع المساجد، لأن الكفار كانوا يدخلون مسجد المدينة، إذا قدموا وافدين من قومهم.
وهذه الآية نزلت في شأن أهل الحرب، إنهم لا يدخلون المسجد الحرام بغير أمان، ولا يكون لهم ولاية البيت.
وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال: لا يدخلون المسجد الحرام إلا برق أو عهد.
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}، يعني: حاجة وفقرًا.
وقال الزجاج العيلة الفقر، كما قال الشاعر:
وَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتَى غِنَاه ** وَلاَ يَدْرِي الغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ

ثم قال: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ}؛ وذلك أنه لما منع المشركون من مكة، قال أناس من التجار لأهل مكة: من أين تأكلون إذا فعلتم هذا؟ فنزل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ}، يعني: من رزقه؛ ففرحوا بذلك فأسلم أهل جدة وصنعاء من أهل اليمن، فحملوا الطعام إلى مكة من البر والبحر وأغناهم الله تعالى بذلك، يعني: أغناهم عن تجار الكفار بالمؤمنين.
ثم قال: {إِن شَاء}، يعني: يدوم لكم بمشيئة الله تعالى.
{إِنَّ الله عَلِيمٌ} بخلقه {حَكِيمٌ} في أمره. اهـ.

.قال الثعلبي:

{يا أيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ}
قال الضحاك وأبو عبيدة: قذر، وقال ابن الأنباري: خبيث يقال: رجل نجس وامرأة نجس ورجلين وأمرأتان نجس ورجال ونساء نُجُس بفتح النون والجيم أو نجُس بضم الجيم ورجس في هذه الأحوال لايثنّى ولا يجمع لأنّه مصدر، وأما النجس بكسر النون وجزم الجيم فلا يقال إلا إذا قيل معه رجس، فإذا أُفرد قيل: نَجِس بفتح النون وكسر الجيم أو نجُس بضم الجيم.
وقرأ ابن السميفع: {إنما المشركون أنجاس}، كقولك أخباث على الجمع، واختلفوا في معنى النجس والسبب الذي من أجله سمّاهم بذلك، فروي عن ابن عباس: ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب، وهذا قول غير مرضي لمعنيين أحدهما أنه روي عنه من وجه غير حميد فلا يصح عنه، والآخر أن هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين؛ لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام، ولا يستوي في النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام وغيره من المساجد، واحتج من قال أعيانهم نجسة بما روي أن عمر بن عبد العزيز كتب أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه بقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ}.
وكما روي عن الحسن أنه قال: لا تصافحوا المشركين. فمن صافحهم فليتوضّأ، وقال قتادة: سمّاهم نجسًا لأنهم يجنبون ولايغتسلون، ويحدثون ولا يتوضؤون، فمنعوا من دخول المسجد لأن الجنب لاينبغي أن يدخل المسجد.
وقال الحسين بن الفضل: هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين فسموا نجسًا على الذّم، يدلّ عليها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى حذيفة فأخذ صلى الله عليه وسلم بيده، فقال حذيفة: يا رسول الله إنّي جنب، فقال: «إن المؤمن لا ينجس».
{فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} قال أهل المعاني: أراد بهذا منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام، قال عطاء الحرم كلّه قبلة ومسجد وتلا هذه الآية.
جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الحرم إلا أهل الجزية أو عبد لرجل من المسلمين، ونساؤهم حل لكم، وقرأ: {بعد عامهم هذا} يعني العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه عنه بالناس، ونادى علي كرم الله وجهه ببراءة وهو سنة تسع في الهجرة {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} الآية.
قال المفسرون: وكان المشركون يجلبون إلى البيت الطعام ويتّجرون ويتبايعون، فلمّا منعوا من دخول الحرم شقّ ذلك على المسلمين، والقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال لهم: من أين تأكلون وتعيشون وقد بقي المشركون وانقطعت عنهم العير. فقال المؤمنون: يا رسول الله قد كنّا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم فالآن تنقطع عنّا الأسواق ويملك التجارة، ويذهب ما كنّا نصيب منها من المرافق، فأنزل الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}.
وقال عمرو بن فايد: معناه وإذا خفتم؛ لأن القوم كانوا قد خافوا، وذلك هو قول القائل: إن كنت أبي فأكرمني يعني (إن خفت) عيلة فقرًا وفاقة. يقال عال يعيل عيلة وعيولا. قال الشاعر:
فلا يدري الفقير متى غناه ** ولا يدري الغني متى يعيل

وفي مصحف عبد الله: وإن خفتم عايلة أي (حصلة) يعول عليكم أي يشق {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} وذلك أنه أنزل عليهم مطرًا مدرارًا فكثر خيرهم حين ذهب المشركون.
وقال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وطهوا الطعام إلى مكة على ظهور الإبل والدواب، وكفاهم الله عز وجل ما كانوا يتخوّفون.
قال الكلبي: اخصبت [...]، وكفاهم الله ما أهمّهم، وقال الضحاك وقتادة: قسم الله منها ماهو خير لهم وهو الجزية فأغناهم الله وذلك قوله: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله}. اهـ.